سورة إبراهيم - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ(38)}
وبعد أن اطمأن إبراهيم- عليه السلام- أن لهذا البلد أمناً عاماً وأمناً خاصاً، واطمأن على مُقوِّمات الحياة؛ وأن كل شيء من عند الله، بعد كل ذلك عاودته المسألة التي كانت تشغله، وهي مسألة تَرْكه لهاجر وإسماعيل في هذا المكان.
وبعض المُفسِّرين قالوا: إن الضمير بالجمع في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ...} [إبراهيم: 38].
مقصود به ما يُكِنّه من الحُبِّ لهاجر وإسماعيل، وما يُعلِنه من الجفاء الذي يُظهِره لهما أمام سارة، وكأن المعاني النفسية عاودتْه لحظةَ أنْ بدأ في سلام الوداع لهاجر وابنه إسماعيل.
ونقول: لقد كانت هاجر هي الأخرى تعيش موقفاً صَعْباً؛ ذلك أنها قد وُجدت في مكان ليس فيه زَرْع ولا ماء، وكأنها كتمتْ نوازعها البشرية طوال تلك الفترة وصبرتْ.
ولحظة أنْ جاء إبراهيم لِيُودّعها؛ قالت له: أين تتركنا؟ وهل تتركنا مِنْ رأيك أم من أمر ربَك؟ فقال لها إبراهيم عليه السلام: بل هو من أَمر الله. فقالت: إذن لن يضيعنا.
وتأكدت هاجر من أن ما قالتْه قد تحقَّق؛ ولن يُضيّعهما الله، وحين يعطش وحيدها تجري بين الصفا والمروة بَحْثاً عن مياه؛ ولكنها ترى تفجُّر الماء تحت قَدَمَيْ ابنها في المكان الذي تركته فيه؛ ويبدأ بئر زمزم في عطاء البشر منذ ذلك التاريخ مياهه التي لا تنضب.
وهكذا يتحقق قول إبراهيم- عليه السلام- في أن الله يعلم ما نُسِرّ وما نُعلِن؛ ذلك أن كل مُعْلَن لا يكون إلا بعد أن كل مَخْفياً، وعلى الرغم منَ أن الله غَيْبٌ إلا أن صِلَته لا تقتصر على الغيب؛ بل تشمل العالم الظاهر والباطن؛ وكل مظروف في السماء أو الأرض معلومٌ لله؛ لأن ما تعتبره أنت غيباً في ذهنك هو معلوم لله من قبل أن يتحرك ذهنك إليه.
ولذلك يقول سبحانه في موقع آخر: {وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 7].
فإذا كان السِّر هو ما أسررْت به لغيرك؛ وخرج منك لأنك استأمنتَ الغير على ألاّ يقوله، أو كان السر ما أخفيتَه أنت في نفسك؛ فالله هو العَالِم به في الحالتين.
ويقول القرآن: {وَإِذْ أَسَرَّ النبي إلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً..} [التحريم: 3].
أي: أن السِّرَّ كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقل إلى بعضٍ من أزواجه. والأَخْفى هو ما قبل أنْ تبوحَ بالسرِّ؛ وكتمته ولم تَبُحْ به.
وسبحانه يعلم هذا السر وما تخفيه. أي: السر الذي لم تَقًُلْه لأحد، بل ويعلمه قبل أنْ يكونَ سرِاً.
ويقول سبحانه ما قاله إبراهيم- عليه السلام- ضراعةَ وحَمْداً له سبحانه: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي...}.


{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ(39)}
والوَهْب هو عطاء من مُعْطٍ بلا مقبال منك. وكل الذرية هِبَة، لو لم تكُنْ هبة لكانت رتيبة بين الزوجين؛ وأينما يوجد زوجان توجد. ولذلك قال الله: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
والدليل على أن الذرية هِبَة هو ما شاءه سبحانه مع زكريا عليه السلام؛ وقد طلب من الله سبحانه أن يرزقه بغلام يرثه، على الرغم من أنه قد بلغَ من الكِبَر عِتياً وزوجه عاقر؛ وقد تعجَّب زكريا من ذلك؛ لأنه أنجب بقوة، وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه: {كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9].
وهذا يعني ألاَّ يدخل زكريا في الأسباب والمُسبِّبات والقوانين.
وقد سمَّى الحق سبحانه الذرية هِبةً؛ لذلك يجب أن نشكرَ الله لأن الذي يقبل هبة الله في إنجاب الإناث برضاً يرزقه الله بشباب يتزوجون البنات؛ ويصبحون أطوعَ له من أبنائه، رغم أنه لم يَشْقَ في تربيتهم.
وكل منّا يرى ذلك في مُحِِيطة، فمَنْ أنجب الأولاد الذكور يظل يرقب: هل يتزوج ابنه بمَنْ تخطفه وتجعله أطوعَ لغيره منه.
وإنْ وهب لك الذكور فعلى العين والرأس أيضاً، وعليك أنْ تطلبَ من الله أن يكون ابنك من الذرية الصالحة، وإنْ وهبكَ ذُكْرنا وإناثاً فلكَ أن تشكره، وتطلب من الله أن يُعينك على تربيتهم.
وعلى مَنْ جعله الحق سبحانه عقيماً أن يشكرَ ربه؛ لأن العُقْم أيضاً هبةٌ منه سبحانه؛ فقد رأينا الابن الذي يقتل أباه وأمه، ورأينا البنت التي تجحد أباها وأمها.
وإنْ قَبِل العاقر هبةَ الله في ذلك؛ وأعلن لنفسه ولمَنْ حوله هذا القبول؛ فالحق سبحانه وتعالى يجعل نظرة الناس كلهم له نظرة أبناء لأب، ويجعل كل مَنْ يراه من شباب يقول له: (أتريد شيئاً يا عم فلان؟) ويخدمه الجميع بمحبة صافية.
وإبراهيم- عليه السلام- قد قال للحق سبحانه: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر...} [إبراهيم: 39].
والشكر على الهبة- كما عرفنا- يُشكِّل عطاءَ الذرية في الشباب، أو في الشيخوخة.
وأهل التفسير يقولون في: {عَلَى الكبر...} [إبراهيم: 39].
أنه يشكر الحق سبحانه على وَهْبه إسماعيل وإسحق مع أنه كبير. ولماذا يستعمل الحق سبحانه(على) وهي من ثلاثة حروف؛ بدلاً من (مع) ولم يَقُل (الحمد لله الذي وهب لي مع الكِبَر إسماعيل وإسحاق).
وأقول: إن(على) تفيد الاستعلاء، فالكِبَر ضَعْف، ولكن إرادة الله أقوى من الضعف؛ ولو قال (مع الكبر) فالمعيّة هنا لا تقتضي قوة، أما قوله: {وَهَبَ لِي عَلَى الكبر...} [إبراهيم: 39].
فيجعل قدرة الله في العطاء فوق الشيخوخة.
وحين يقول إبراهيم عليه السلام ذلك؛ فهو يشكر الله على استجابته لما قاله من قبل: {إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37].
أي: أنه دعا أن تكونَ له ذرية.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقول إبراهيم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} [إبراهيم: 39].
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {رَبِّ اجعلني...}.


{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ(40)}
وكأن إبراهيم عليه السلام حين دعا بأمر إقامة الصلاة فهذه قضية تخصُّ منهج الله، وهو يسأل الله أنْ يقبلَ، ذلك أن الطلبات الأخرى قد طلبها ببشريته؛ وقد يكون ما طلبه شراً أو خيراً؛ ولكن الطلب بأن يجعله مُقيماً للصلاة هو وذريته هو طَلَبٌ بالخير.
ويتتابع الدعاء في قول الحق سبحانه على لسان إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ...}.

9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16